فصل: الحكم الأول: من المخاطب في الآية الكريمة؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.وجه الارتباط بالآيات السابقة:

في الآيات السابقة حذر الله جل ثناؤه من مقارفة الفواحش وارتكاب الموبقات فنهى عن الزنى ودواعيه القريبة والبعيدة، من النظر إلى النساء، والاختلاط بهن، وكشف العورات، وإبداء الزينة، ودخول البيوت بغير استئذان. وغير ذلك مما يدعو إلى الفساد وضياع الأخلاق والوقوع في المهالك، وفي هذه الآيات الكريمة رغب المولى جل وعلا في النكاح وأمر بالإعانة عليه وتسهيل سبله، لأن النكاح من خير ما يحقق العفة، ويعصم المؤمن من الزنى، ويبعده عن آثامه وهو الطريق الوحيد لبقاء النوع الإنساني. وبناء المجتمع الفاضل ولهذا وردت هذه الآيات الكريمة تحثُّ على إعفاف الشباب والفتيات عن طريق الزواج. وتدعو إلى تذليل كل العقبات التي تعترض طريق الزواج سواء كانت هذه العقباتُ مالية، أو غير مالية. وهذا وجه الارتباط بين الآيات الكريمة. والله أعلم.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: قال تعالى: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} فيه إشارة إلى قيمة التقى والصلاح في الإنسان. فلا يكرم الإنسان لماله أو جاهه، وإنما يُكرَّم لدينه وصلاحه كما قال تعالى: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} في هذه الآية وعد من الله بإغناء من سلك طريق الزواج وقصد إعفاف نفسه به. وقد نقل عن عدد من الصحابة أنهم فهموا ذلك حتى قال أبو بكر: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، يُنْجزْ لكم ما وعدكم من الغنى وعن عمر وابن عباس: التمسوا الرزق بالنكاح.
فإن قيل: فنحن نرى كثيرًا من الفقراء يتزوجون ويستمر فقرهم ولا يستغنون ونرى من كان غنيًا فيتزوج يصبح فقيرًا؟ فالجواب: أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة كما في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ} [التوبة: 28] ومما يدل على إضماره أن الله تعالى ختم الآية بقوله: {والله واسع عَلِيمٌ} ولم يقل واسع كريم وهذا يفيد أنه تعالى يعلم مصلحة عباده فيبسط لمن يشاء ويقدر لمن يشاء، حسب الحكمة والمصلحة. وقد ورد إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لفسد حاله... وحكمة هذا الربط بين الغنى والنكاح أنه قد يخيل إلى بعض الناس أن الأولاد والذرية سبب الفقر حتمًا وأن عدمهم سبب لكثرة المال جزمًا، فأريد قلع هذا الخيال من الأوهام، بأن الله قادر على إغناء العبد مع كثرة عياله، وإفقاره ولو كان عزبًا في داره، ولا أثر للزواج في فقر الإنسان ولا للغزوبة في غناه فالله هو الرازق ذو القوة المتين وصدق الله {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2- 3].
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا} في الآية دعوة للشباب الذين لا يتيسر لهم أمر الزواج بإعفاف النفس حتى يهيئ الله لهم أسبابه فهو على سبيل المجاز أو تقدير مضاف أي لا يجدون أسباب النكاح أو استطاعة النكاح أو المراد بالنكاح: ما ينكح به من المال.
قال الشهاب: فإن فِعَالًا يكون صفة بمعنى مفعول، ككتاب بمعنى مكتوب، واسم آلة كركاب لما يركب به، وهو كثير كما نص عليه أهل اللغة.
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله} فيه إشارة لطيفة إلى أن المال الذي في أيدي الأغنياء إنما هو وديعة عندهم، استخلفهم الله عليها ليحسنو التصرف فيها {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] فالمالك الحقيقي هو الله رب العالمين، وليس الغني مالكًا للمال حقيقة وإنما هو مؤتمن عليه وهو وديعة بين يديه.
اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} جملة معترضة فائدتها التشنيع والتقبيح على السادة في ارتكاب هذه الرذيلة والإكراه عليها، فالأصل في الأمة المملوكة أن يحصنها سيدها إذا مالت نحو الفجور، أما أن يدعوها إلى عمل الفاحشة وتأبى وتمتنع وتريد العفة، فذلك منتهى الخسة والدناءة منه.
فالأمة في هذه الحالة خير من السيِّد، لأنها آثرت التحصن على الفاحشة وهي أشرف من السيّد وأطهر.
قال أبو السعود: فإن من له أدنى مرؤءة لا يكاد يرضى من يحويه حرمه من إمائه فضلًا عن أمرها به أو إكراهها عليه لاسيما عند إرادة التعفف فليس هو إذًا للقيد أو الشرط وإنما هو لبيان فظاعة الأمر وشناعته فتدبره فإنه دقيق.
اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياوة الدنيا} هذا التعليل فيه إشارة إلى تفاهة وحقارة ما صنعوا، فإن أقدس وأشرف ما يملكه الإنسان هو العرض والشرف فهم يقدمون هذا الشيء النفيس مقابل النزر الخسيس فيا لها من خسة ونذالة.
اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إكراههن غَفُورٌ رَّحِيمٌ} المغفرة والرحمة مخصصة بالمكرَهات من الإماء وأما المُكْرهُون فعليهم اللعنة والسخط، وقد كان الحسن البصري إذا قرأ هذه الآية يقول: لهنَّ والله، أي إن الله غفور لهن، لا لأولئك المجرمين الذين أكرهوا النساء على البغاء.
ففي الآية مجاز بالحذف أي غفور لهن رحيم بهن. ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: {من بعد إكراههن} أي لأنهن مكرهات لا إرادة لهن ولا اختيار فقد رفع الله عنهن العذاب وبقي الإثم على المكره وما قاله بعض المفسرين: إن المغفرة والرحمة للمكرِهين إنْ تابوا وأصلحوا فإنه ضعيف يأباه السياق.
قال أبو السعود: وفي تخصيص المغفرة والرحمة بهن وتعيين مدارهما دلالة بينة على كونهم محرومين منهما بالكلية كأنه قيل: لهنَّ لا للمكِرهين فتجويز تعلقهما بهم بشرط التوبة ستقلالًا، أو معهن إخلالٌ بجزالة النظم الجليل، وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: من المخاطب في الآية الكريمة؟

ذهب بعض العلماء إلى أن الخطاب في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى} عام لجميع الأمَّة أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من الرجال الأحرار والنساء الحرائر.. وقال بعضهم إن الخطاب للأولياء والسادة فقط أي لأولياء الأحرار، كالآباء وغيرهم ممن يتولون شؤون غيرهم، ولسادات العبيد والإماء الذين يملكونهم ملك اليمين.
وقال آخرون: إنه للأزواج لأنهم هم المأمورون بالنكاح.
قال القرطبي: والخطاب للأولياء وقيل للأزواج والصحيح الأول؛ إذ لو أراد الأزواج لقال وانكحوا بغير همز، وكانت الألف للوصل. والذي نختاره هو أن الأمر موجه إلى جميع الأمة، وأنَّ عليهم أن يسهلوا أسباب الزواج، ويسعوا سعيًا حثيثًا لتزويج الشباب، وإزالة العوائق والعقبات من الطريق لأن الزواج هو طريق الإحصان والعفة، فالخطاب إذًا للجميع وليس المراد بالتزويج في الآية هو أجراء عقد الزواج لأن لفظ الأيامى يشمل كل من لا زوج له من الرجال والنساء، صغارًا كانوا أو كبارًا، كما تقدم.
ومن المعلوم أن الرجل الكبير لا ولاية لأحد عليه فالوجه ما قلنا إن الخطاب موجه للأمة، وإن المراد بالتزويج هو الإعانة والمساعدة على النكاح وتسهيل أسبابه، وقد قال عليه السلام «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض».

.الحكم الثاني: هل الزواج واجب أو مستحب؟

اختلف الفقهاء في حكم الزواج على مذاهب نبينها فيما يلي:
أ- مذهب الظاهرية: أن الزواج واجب، ويأثم الإنسان بتركه.
ب- مذهب الشافعية: أن الزواج مباح ولا إثم بتركه.
ج- مذهب الجمهور المالكية والأحناف والحنابلة: أن الزواج مستحب ومندوب وليس بواجب.
دليل الظاهرية: استدل أهل الظاهر بأن الصيغة وردت بلفظ الأمر وانكحوا والأمر للوجوب فيكون النكاح واجبًا، وبأن الزواج طريق لإعفاف النفس عن الحرام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيأثم تاركه.
دليل الجمهور: واستدل الجمهور من علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن الزواج ليس بواجب وأنه مندوب بعدة أدلة نوجزها فيما يلي:
أ- لو كان الزواج واجبًا لكان النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف شائعًا مستفيضًا لعموم الحاجة إليه، ولما بقي أحد لم يتزوج في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو عهد الصحابة، فلما وجدنا في عصره عليه السلام وسائر الأعصار بعده أيامى من الرجال والنساء لم يتزوجوا ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك دل على أنه ليس بواجب.
ب- لو كان الزواج واجبًا لكان للولي إجبار الثيب على الزواج مع أن الإخبار غير جائز شرعًا لقوله عليه السلام: «ولا تُنْكَح الثيب حتى تستأمر» أي تأمر وترضى بالزواج.
ج- قال الجصاص: ومما يدل على أنه على الندب اتفاق الجميع على أنه لا يجبر السيد على تزويج عبده وأمته وهو معطوف على الأيامى فدل على أنه مندوب في الجميع.
د- قوله عليه السلام: «من أحب فطرتي فليستن بسنتي وإن من سنتي النكاح».
ه- قوله عليه السلام: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة».
دليل الشافعي: واستدل الإمام الشافعي على أن النكاح مباح بانه قضاء لذة ونيل شهوة فكان مباحًا كالأكل والشرب.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أنّ الزواج مندوب للحديث الصحيح: «من رغب عن سنتي فليس مني».
واعلم أن هذا الاختلاف إنما هو في الحالات العادية التي يأمن فيها الإنسان على نفسه من اقتراف المحارم، أما إذا خشي على نفسه الوقوع في الزنى، فإنه لا خلاف في أن النكاح يصبح عليه واجبًا لأن صيانة النفس وإعفافها عن الحرام واجب فيتعين عليه الزواج.
قال القرطبي: قال علماؤنا: يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت الزنى، ومن عدم صبره، ومن قوته على الصبر، وزوال خشية العنت عنه.
وإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا فالنكاح حتم ومن تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطَّوْل فالمستحب له أن يتزوج. وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف ما أمكن ولو بالصوم لأن الصوم له وِجاءٌ كما جاء في الخبر الصحيح.

.الحكم الثالث: هل يجوز للولي إجبار البكر البالغة على الزواج؟

استدل الشافعية من قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} على أن للولي إجبار البكر البالغة على الزواج بدون رضاها لعموم الآية، ولولا قيام الدلالة على أنه لا تُزَوَّج الثيب الكبيرة بغير رضاها لكان جائزًا له تزويجها أيضًا بغير رضاها.
قال الجصاص: قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى} لا يختص بالنساء دون الرجال، فلما كان اللفظ شاملًا للرجال والنساء وقد أضمر في الرجال تزويجهم بإذنهم، فوجب استعمال ذلك الضمير في النساء، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم باستئمار البكر وقال «وإذنها صُمَاتها» فثبت أنه لا يجوز تزويجها إلا بإذنها.
وأيضًا حديث ابن عباس في فتاة بكر زوَّجها أبوها بغير أمرها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيزي ما فعل أبوك» وهو يدل على وجوب الاستئذان.

.الحكم الرابع: هل يجوز للمرأة أن تتولى عقد الزواج بنفسها؟

استدل فقهاء الشافعية والحنابلة على أن المرأة لا تلي عقد النكاح وإلى أن النكاح لا ينعقد بعبارتها لقوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} [البقرة: 221] ووجه الاحتجاج بالآيتين أن الله تعالى خاطب الرجال بالنكاح ولم يخاطب به النساء، ولأنه لو جاز لها أن تتولى النكاح بنفسها لفوَّتت على وليها حق الولاية عليها، ولأن الزواج له مقاصد متعددة والمرأة كثيرًا ما تخضع لحكم العاطفة فلا تحسن الاختيار، فجعل الأمر إلى وليها لتتحقق مقاصد الزواج على الوجه الأكمل.
أقول: هذا الذي ذهب إليه الشافعية والحنابلة هو الرأي الصحيح الراجح الذي عليه أكثر أهل العلم، ولكنك قد علمت أن الأولى في الآية الكريمة حمل الخطاب على أنه للناس جميعًا لا للأولياء فقط، بمعنى أن الله تعالى يندب المؤمنين إلى المساعدة في النكاح والإعانة عليه، وأن على المسلمين عامة أن يهتم بعضهم ببعض حتى لا يبقى في مجتمعهم رجل ولا امرأة بدون زواج وعلى هذا فحكم مباشرة عقد الزواج، لا يؤخذ من الآية وإنما يؤخذ من أدلة أخرى من السنة المطهرة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي» وقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل». قال الألوسي: والذي أميل إليه أن الأمر لمطلق الطلب وإن المراد من الإنكاح: المعاونة والتوسط، وتوقّفُ صحة النكاح في بعض الصور على الولي يُعلم من دليل آخر.